" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ " (القمر :1).
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع سورة القمر ، وهي سورة مكية ، يدور محورها حول قضية الإيمان بوحي السماء الذي أنزله ربنا (تبارك وتعالى) على فترة من الرسل ، وأتمه وأكمله ، وحفظه في الوحي الخاتم المنزل على الرسول الخاتم (صلى الله عليه وسلم) ; ولذلك تحمل السورة على المكذبين ببعثته الشريفة ، وبالآيات التي أيده الله (تعالى) بها ، وفي مقدمتها القرآن الكريم ، وذلك انطلاقا من غرورهم ، وكبرهم ، وغطرستهم ، وصلفهم ، وتتوعدهم الآيات بالشقاء في الدنيا وبالمصير المخزي في الآخرة كما حدث مع الذين كذبوا بالرسالات السابقة .
وتطالب سورة القمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالإعراض عن هؤلاء الكافرين ، وإمهالهم إلى يوم البعث العظيم ، يوم يخرجون من قبورهم كأنهم جراد منتشر ... وهو يوم الفزع الأكبر ، والهول الأكبر الذي نسأل الله (تعالى) أن يجيرنا من فزعه وأهواله ... اللهم آمين .
وقد ابتدأت سورة القمر بالتحذير من اقتراب وقت الساعة ، ومن الثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوله الشريف : " بعثت أنا والساعة هكذا وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي " (البخاري ومسلم) .ثم تابعت السورة بذكر تلك المعجزة الحسية ـ معجزة انشقاق القمرـ التي أجراها ربنا (تبارك وتعالى) تأييدا لخاتم أنبيائه ورسله في مواجهة تكذيب مشركي قريش لنبوته ولرسالته ، وعلى الرغم من وقوع المعجزة ـ التي لم ينكرها أحد منهم ـ فإنهم بدلا من أن يؤمنوا بها اتهموا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالسحر ، وهم الذين لم يشهدوا عليه كذبا أبدا ، وذلك انطلاقا من كبرهم وعنادهم واتباعهم لأهوائهم ، ولم تزجرهم عن ذلك الأنباء ، ولم تغنهم النذر ...!!
ومن قبيل تذكير هؤلاء الكافرين بمصائرهم استعرضت سورة القمر مصارع المكذبين في عدد من الأمم السابقة ومنهم أقوام نوح ، وعاد ، وثمود ، ولوط ، وفرعون ، مؤكدة أن كفار قريش لم يكونوا بأقوى ولا بأشد من تلك الأمم السابقة عليهم (والخطاب هنا يشمل المتجبرين من الكفار والمشركين في زماننا ، وفي كل زمان من أمثال الصهاينة المجرمين وإبادتهم المستمرة لشعب فلسطين ، والأمريكان وأعوانهم من المتجبرين على شعب أفغانستان وغيره من شعوب العالمين العربي والإسلامي ، وكل من الروس ، والهندوس ، والبوذيين واستباحتهم لأراضي كل من الشيشان ، وكشمير ، وأراكان ، وجنوب الفلبين ، وغيرهم ممن يستبيح أراضي الصومال ، والسودان ، وسبتة ومليلية والجزر المحيطة بهما ، أو يقوم بمحاصرة العديد من الدول المسلمة مثل العراق ، وليبيا ، والسودان) .
وفي نهاية كل خبر من أخبار الأمم البائدة تدعو السورة الكريمة كفار قريش ـ كما تدعو الكفار والمشركين في زماننا وفي كل زمان ومكان إلى الاعتبار والتذكر وذلك بقول الحق (تبارك وتعالى) : " وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ " ؟ (القمر:15) .
أو بقوله (عز من قائل) : " فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ " (القمر:30،21،16) .وقد تكررت هذه الآية الكريمة ثلاث مرات في سياق السورة .
وبين كل خبر من أخبار تلك الأمم الهالكة والذي يليه تنبه سورة القمر إلى حقيقة أن القرآن الكريم ميسر لكل من يطلبه ، ويطلب العظة والاعتبار منه ، ولذلك تكرر في ثنايا هذه السورة المباركة أربع مرات قول الحق (تبارك وتعالى) : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (القمر:40،32،22،17) .
وبعد هذا الاستعراض التاريخي المعجز عاودت سورة القمر توجيه الحديث إلى كفار قريش ـ كما توجهه إلى كفار اليوم وإلى كفار كل يوم حتى قيام الساعةـ محذرة إياهم من مصير كمصائر المكذبين السابقين أو أشد وأنكى ، في الدنيا قبل الآخرة ، ومذكرة إياهم بمواقف الذل والمهانة التي سوف يتعرضون لها في الآخرة ، وفي ذلك يقول الحق (تبارك وتعالى) : " أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِآ . أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌآ . سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَآ . بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّآ . إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍآ . يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ " (القمر:43-48) .وبعد تأكيد أن الله (تعالى) هو خالق كل شيء بتقدير دقيق ، وحكمة بالغة ، وأن أمره سبحانه (واحدة كلمح بالبصر) ، وأن الاعتبار بهلاك الأمم البائدة من صميم التعقل ومن حسن الاستفادة بدروس التاريخ ، وأن كل ما فعلته تلك الأمم ، ويفعله غيرهم من الخلق مدون ، ومسطر ، ومسجل عليهم ، وأنهم سوف يواجهون به ، ويحاسبون عليه يوم القيامة .
بعد استعراض ذلك كله ختمت سورة القمر ببيان منازل التكريم التي أعدت للمتقين من عباد الله الصالحين والتي ختمها الحق (تبارك وتعالى) بقوله (عز من قائل) :
" إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍآ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ " (القمر:55،54) .
وجوانب الإعجاز في سورة القمر تشمل إثبات حقيقة انشقاق القمر ، ومواقف كفار قريش منها ، ووصف خروج الناس من قبورهم كأنهم جراد منتشر ، وتشمل الإعجاز التاريخي بذكر عدد من الأمم السابقة ، وذكر مواقفهم من أنبيائهم ورسلهم ، ومن وحي الله (تعالى) إليهم ، وذكر ما أصابهم من مختلف صور العذاب جزاء استكبارهم وصلفهم ، وإنكار رسالة السماء إليهم ، ثم جاءت الكشوف العلمية والأثرية في القرن العشرين مؤكدة صدق كل ما جاء في هذه السورة المباركة ، وفي غيرها من سور القرآن الكريم عن تلك الأمم البائدة .وسوف يتم التركيز هنا على قضية انشقاق القمر ، وهي معجزة خارقة ، لا يكاد العقل البشري أن يتصورها ، ولكن من رحمة الله بنا أن أبقي لنا في صخور القمر من الشواهد الحسية ما يؤكد وقوعها ...!! وأعان الإنسان على الوصول إلى تلك الشواهد حتى تقوم الحجة البالغة على الناس في عصر العلم والتقنية الذي نعيشه بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق ، وأن النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ، ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض ، وقبل الحديث عن معجزة انشقاق القمر لابد من استعراض لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية القرآنية الكريمة .
ذكر ابن كثير (يرحمه الله) ما نصه : يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها ، كما قال تعالى : " أتي أمر الله فلا تستعجلوه " (النحل:1) ، وقال : " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " (الأنبياء:1) ، وقد وردت الأحاديث بذلك ... وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات .
وجاء في تفسير الجلالين (رحم الله كاتبيه برحمته الواسعة) ما نصه : (اقتربت الساعة) قربت القيامة (وانشق القمر) انفلق فلقتين على جبلي أبي قبيس وقعيقعان ، آية له صلى الله عليه وسلم ، وقد سئلها[ أي : سأله أهل مكة أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر] فقال : (اشهدوا) رواه الشيخان .وذكر صاحب الظلال (رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه : مطلع باهر مثير ، على حادث كوني كبير ، وإرهاص بحادث أكبر ، لا يقاس إليه ذلك الحدث الكوني الكبير : اقتربت الساعة وانشق القمر فياله من إرهاص! وياله من خبر ، ولقد رأوا الحدث الأول فلم يبق إلا أن ينتظروا الحدث الأكبر; والروايات عن انشقاق القمر ورؤية العرب له في حالة انشقاقه أخبار متواترة ، تتفق كلها في إثبات وقوع الحادث ....
وبعد استعراض لعدد من الروايات أضاف صاحب الظلال (يرحمه الله) : فهذه روايات متواترة من طرق شتي عن وقوع هذا الحادث ، وتحديد مكانه في مكة ـ باستثناء رواية لم نذكرها عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه كان في منيـ وتحديد زمانه في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل الهجرة ، وتحديد هيئته ـ في معظم الروايات أنه انشق فلقتين ، وفي رواية واحدة أنه كسف (أي خسف) . . فالحادث ثابت من هذه الروايات المتواترة المحددة للمكان والزمان والهيئة .
وهو حادث واجه به القرآن المشركين في حينه ، ولم يرو عنهم تكذيب لوقوعه ، فلابد أن يكون قد وقع فعلا بصورة يتعذر معها التكذيب ، ولو على سبيل المراء الذي كانوا يمارونه في الآيات ، لوجدوا منفذا للتكذيب . وكل ما روي عنهم أنهم قالوا : سحرنا! ولكنهم هم أنفسهم اختبروا الأمر ، فعرفوا أنه ليس بسحر; فلئن كان قد سحرهم فإنه لا يسحر المسافرين خارج مكة الذين رأوا الحادث وشهدوا به حين سئلوا عنه .
وأضاف (يرحمه الله) : بقيت لنا كلمة في الرواية التي تقول : إن المشركين سألوا النبي (صلى الله عليه وسلم) آية ، فانشق القمر . فإن هذه الرواية تصطدم مع مفهوم نص قرآني مدلوله أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يرسل بخوارق من نوع الخوارق التي جاءت مع الرسل قبله ، لسبب معين : " وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ " (الإسراء:59) .
فمفهوم هذه الآية أن حكمة الله اقتضت منع الآيات ـ أي الخوارق ـ لما كان من تكذيب الأولين بها ... فالقول بأن انشقاق القمر كان استجابة لطلب المشركين آية ـ أي خارقة ـ يبدو بعيدا عن مفهوم النصوص القرآنية ، وعن اتجاه هذه الرسالة الأخيرة إلى مخاطبة القلب البشري بالقرآن وحده ، وما فيه من إعجاز ظاهر ، ثم توجيه هذا القلب ـ عن طريق القرآن ـ إلى آيات الله القائمة في الأنفس والآفاق ، وفي أحداث التاريخ سواء ... فأما ما وقع فعلا للرسول (صلى الله عليه وسلم) من خوارق شهدت بها روايات صحيحة فكان إكراما من الله لعبده ، لا دليلا لإثبات رسالته ... ومن ثم نثبت الحادث ـ حادث انشقاق القمر ـ بالنص القرآني وبالروايات المتواترة التي تحدد مكان الحادث وزمانه وهيئته ، ونتوقف في تعليله الذي ذكرته بعض الروايات ، ونكتفي بإشارة القرآن إليه مع الإشارة إلى اقتراب الساعة ، باعتبار هذه الإشارة لمسة للقلب البشري ليستيقظ ويستجيب ...وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن (رحم الله كاتبه رحمة واسعة) ما نصه : " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ " قربت القيامة جدا . " وَانشَقَّ القَمَرُ " وانفلق فلقتين معجزة له صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين ، حين سأله أهل مكة أن يريهم آية تدل على صدقه ، فأراهم القمر فلقتين حتى رأوا جبل حراء بينهما ، فقال صلى الله عليه وسلم : اشهدوا !! " وقد رآه كثير من الناس; والأحاديث الصحيحة في هذه المعجزة كثيرة . وقيل : اقتربت الساعة ، فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية .
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم (جزاهم الله خيرا) ما نصه : دنت القيامة وسينشق القمر لا محالة .
وجاء في صفوة التفاسير (جزي الله كاتبها خيرا) ما نصه : ... أي دنت القيامة وقد انشق القمر .
واقعة انشقاق القمر في التراث الإسلامي :
رويت واقعة انشقاق القمر عن طريق عدد كبير من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وجبير بن مطعم وغيرهم (رضي الله تبارك وتعالى عنا وعنهم أجمعين) .
فقد روى الإمام البخاري في صحيحه وأخرج الإمام أحمد في مسنده ، وروى كل من الإمامين أبي داود والبيهقي عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قوله : انشق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت قريش : هذا سحر بن أبي كبشة ، قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم به السفار ، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، قال : فجاء السفار فقالوا ذلك . وفي لفظ انظروا السفار ، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به ، قال : فسئل السفار ، قال : وقدموا من كل جهة ، فقالوا : رأينا ، فأنزل الله عز وجل : " اقتربت الساعة وانشق القمر " . وروي عنه أيضا قوله : انشق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرقتين : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : اشهدوا . كذلك روى كل من الإمامين البخاري وأحمد عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أنه قال : إن أهل مكة سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر .
وروى الإمام البيهقي ، كما أخرج كل من الأئمة البخاري ومسلم والترمذي (جزاهم الله خيرا) عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قوله : ... وقد كان ذلك على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، انشق فلقتين ، فلقة من دون الجبل ، وفلقة من خلف الجبل ، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : اللهم اشهد .وروي كل من الإمامين البخاري ومسلم (رحمهما الله) عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قوله : انشق القمر في زمان النبي (صلى الله عليه وسلم) . كذلك روي ابن جرير عن ابن عباس قوله : ... قد مضي ذلك ، كان قبل الهجرة ، انشق القمر حتى رأوا شقيه .
وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم (رضي الله عنه) قوله : انشق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد ، وقال غيرهم : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم .
وروى الإمام ليث عن مجاهد (رضي الله عنه) قوله : انشق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصار فرقتين ، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لأبي بكر (رضي الله عنه) : اشهد يا أبا بكر ، فقال الكافرون : سحر القمر حتى انشق .
وفي إحدى المخطوطات الهندية القديمة والمحفوظة في مكتبة المركز الهندي بمدينة لندن (تحت رقم152/2807 ـ173) ذكر المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور محمد حميد الله في كتابه المعنون محمد رسول الله أن أحد ملوك ماليبار (وهي إحدى مقاطعات جنوب غربي الهند) وكان اسمه شاكر واتي فارماس (Chakarawati Farmas) شاهد انشقاق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأخذ يحدث الناس بذلك .
وحدث أن مر عدد من التجار المسلمين بولاية ماليبار ، وهم في طريقهم إلى الصين ، وسمعوا حديث الملك شاكرواتي فارماس عن انشقاق القمر فأخبروه أنهم أيضا قد رأوا ذلك ، وأفهموه أن انشقاق القمر معجزة أجراها ربنا (تبارك وتعالى) تأييدا لخاتم أنبيائه ورسله (صلى الله عليه وسلم) في مواجهة تكذيب مشركي قريش لنبوته ولرسالته . فأمر الملك بتنصيب ابنه وولي عهده قائما بأعمال مملكة ماليبار وتوجه إلى الجزيرة العربية لمقابلة المصطفي (صلى الله عليه وسلم) . وبالفعل وصل الملك الماليباري إلى مكة المكرمة وأعلن إسلامه أمام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وتعلم ركائز الدين الأساسية ، وأفل راجعا ، ولكن شاءت إرادة الله (تعالى) أن ينتهي أجله قبل مغادرته أرض الجزيرة العربية فمات ودفن في أرض ظفار ، وحين وصل الخبر إلى ماليبار كان ذلك حافزا لدخول أهلها الإسلام زرافات ووحدانا .
" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ " (القمر :1).
شاهد من عصرنا على انشقاق القمر :
عقب محاضرة لي عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ألقيت باللغة الإنجليزية في كلية الطب بجامعة كاردف عاصمة مقاطعة ويلز في غربي الجزر البريطانية ، دار حوار ممتع مع جمهور الحضور من المسلمين وغير المسلمين ، ومن جملة الأسئلة التي أثيرت من أحد الحضور سؤال عن واقعة انشقاق القمر كما جاء ذكرها في مطلع سورة القمر ، وهل تمثل لمحة من لمحات الإعجاز العلمي في كتاب الله؟ وعلى الفور أجبت بأنها معجزة من المعجزات الحسية العديدة التي حدثت تأييدا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مواجهة تكذيب كفار قريش لبعثته الشريفة ، وأن المعجزات هي خوارق للسنن والقوانين الحاكمة للكون ، فلا يستطيع العلم الكسبي تفسيرها ، ولو استطاع تفسيرها ما كانت معجزة .
وأضفت أن المعجزات الحسية التي جاء ذكرها في كتاب الله ، أو في سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) هي حجج على من شاهدها من الخلق ، وبما أننا لم نشاهدها فهي ليست حجة علينا ، ولكننا نؤمن بوقوعها لورود ذكرها في كتاب الله أو في الأقوال الصحيحة المنسوبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وكتاب الله كله حق مطلق ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصفه القرآن الكريم بقول الحق (تبارك وتعالى) : " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىآ . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىآ . وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى " (النجم:3-5) .
وحادثة انشقاق القمر جاء ذكرها في مطلع سورة القمر ، على أنها قد وقعت بالفعل تحديا لكفار ومشركي قريش ، وتأييدا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مواجهة تكذيبهم لنبوته ولرسالته ، ولم يرو عن أحد منهم تكذيب تلك الواقعة التي نسبوها تارة لتعرضهم هم لعملية سحر ، وتارة أخري لتعرض القمر للسحر ، حتى هيئ لهم أنه قد انشق بالفعل مما يفهم منه تأييدهم لوقوع تلك المعجزة ، وإن حاولوا التقليل من شأنها بنسبتها إلى السحر ...!! ، ثم عاودوا نفي فرية السحر بأنفسهم وذلك بقول نفر من عقلائهم ـكما جاء في روايات الواقعة : لئن كان قد سحرنا فإنه لا يمكن أن يكون قد سحر معنا المسافرين خارج مكة ; فتسارعوا إلى مداخل المدينة في انتظار الركبان القادمين من السفر ، وعند سؤالهم شهدوا بأنهم في الليلة نفسها التي شاهد فيها أهل مكة تلك الواقعة رأوا هم كذلك انشقاق القمر إلى فلقتين تباعدتا عن بعضهما البعض لعدة ساعات ثم التحمتا ، فآمن من آمن وكفر من كفر . ولذلك تقول الآيات في مطلع سورة القمر : " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُآ . وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّآ . وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّآ . وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌآ . حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ " (القمر:1-5) .
كذلك روي حادثة انشقاق القمر بصورة متواترة عدد غير قليل من كبار صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أمثال عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك ، وجبير بن مطعم (رضي الله تبارك وتعالى عنا وعنهم أجمعين) ، ولا يمكن أن تجتمع كلمة هؤلاء جميعا على باطل ، وهم من أهل التقي والورع (ولا نزكي على الله أحدا) . وقد حقق أحاديث انشقاق القمر عدد كبير من أئمة علماء الحديث في مقدمتهم البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وبن ماجة ، وأحمد ، والبيهقي ، وغيرهم كثير مما يجزم بوقوعها ، ومن هنا فإننا نرفض قول بعض المفسرين إن الحادثة من إرهاصات الآخرة انطلاقا من استهلال السورة بقول الحق (تبارك وتعالى) : " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ " ; وهؤلاء قد لا يعلمون أن عمر الأرض التي نحيا عليها يقدر بنحو خمسة آلاف مليون سنة (على أقل تقدير) ، وأن عمر مادة كل من الأرض والكون المحيط بها يقدر بنحو عشرة آلاف مليون سنة (على أقل تقدير) ، وأن بعثة المصطفي (صلى الله عليه وسلم) كانت منذ أربعة عشر قرنا فقط ، ونسبة هذا التاريخ إلى ملايين السنين التي مضت من عمر كل من الأرض والكون يؤكد قرب نهاية العالم . ولذلك يروى عنه (عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم) قوله الشريف : " بعثت أنا والساعة هكذا وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي " (البخاري ومسلم) وهي قولة حق خالص ، وإعجاز علمي صادق لأنه لم يكن لأحد في زمانه (صلى الله عليه وسلم) أدني تصور عن قدم الأرض إلى مثل تلك الآماد الموغلة في القدم ; وهذا كاف للرد على الذين قالوا إن في استهلال سورة القمر بالقرار الإلهي اقتربت الساعة وانشق القمر إيحاء بأن انشقاق القمر مرتبط باقتراب الساعة ، بمعني أنها إذا جاءت انشق القمر ، لأن المعجزة قد وقعت فعلا على زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وقد يشير إلى ذلك وجود شق كبير بالقرب من القطب الجنوبي للقمر على الوجه الذي لا يري من فوق سطح الأرض يزيد طوله على225 كيلو مترا ويدعمه عدم تماثل نصفي القمر الحالي ، ويؤكده وصف القرآن الكريم لنهاية القمر بابتلاع الشمس له (لا بانشقاقه) وذلك كما جاء في قوله (تعالى) : " فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُآ . وَخَسَفَ القَمَرُآ . وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ " (القيامة:7-9) .
ويأتي العلم في قمة من قممه مؤكدا تباعد القمر عن الأرض بمعدل ثلاثة سنتيمترات في كل سنة مما يشير إلى حتمية دخوله في مجال جاذبية الشمس فتبتلعه ، وإن كان ذلك ـ كغيره من إرهاصات الآخرة سوف يتم بالأمر الإلهي : كن فيكون ، وليس بالسنن الدنيوية التي يبقيها لنا ربنا (تبارك وتعالى) لإثبات إمكان وقوع الآخرة ; بل حتميتها .
وبعد فراغي من الإجابة على سؤال السائل الكريم وقف بريطاني مسلم عرف نفسه باسم داود موسي بيدكوك (DavidMusaPidcock) وبمنصبه كرئيس للحزب الإسلامي البريطاني ، واستأذن في إمكان إضافة شيء إلى ما قلته في إجابتي فأذنت له بذلك فقال : إن هذه الآية كانت مدخلي لقبول الإسلام دينا ، فقد شغفت بعلم مقارنة الأديان ، وأهداني صديق مسلم نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم فأخذتها منه شاكرا وتوجهت بها إلى مسكني ، وعند تصفحها لأول مرة فوجئت بسورة القمر فقرأت : اقتربت الساعة وانشق القمر ثم توقفت متسائلا : كيف يمكن للقمر أن ينشق ثم يعود ليلتحم؟ وما هي القوة القادرة على إعادته إلى سيرته الأولي؟ فتوقفت عن القراءة وكأن هذه الآية الكريمة قد صدتني عن الاستمرار في ذلك ...!!
ولكن لعلم الله (تعالى) بمدي إخلاصي في البحث عن الحقيقة أجلسني أمام التلفاز لأشاهد حوارا بين مذيع بريطاني يعمل بقناة التليفزيون البريطاني B.B.C واسمه جيمس بيرك آ (JamesBurck) وثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين ، وجري عتاب على الإسراف المخل في الإنفاق على رحلات الفضاء في الوقت الذي تتعرض جماعات بشرية عديدة لأخطار المجاعات ، والأمراض ، وانتشار الأمية بين البالغين ، ولمختلف صور التخلف العمراني والعلمي والتقني .ووقف علماء الفضاء مدافعين عن مهنتهم بأن الإنفاق على رحلات الفضاء ليس مالا مهدرا لأنه يعين على تطوير تقنيات تطبق في مختلف المجالات الطبية والصناعية والزراعية ، ويمكن أن تعود بمردودات مادية وعلمية كبيرة ، وفي غمرة هذا الحوار جاء ذكر رحلة إنزال رجل على سطح القمر على أنها كانت من أكثر هذه الرحلات كلفة فقد تكلفت عشرات المليارات من الدولارات . فسأل المحاور : هل كان كل ذلك لمجرد وضع العلم الأمريكي على سطح القمر؟ وجاءت الإجابة بالنفي ، وبأن الهدف كان دراسة علمية لأقرب أجرام السماء إلينا; فسأل المحاور : ألم يكن من الأجدى إنفاق تلك المبالغ الطائلة على عمارة الأرض؟ وجاء الجواب بأن الرحلة أوصلتنا إلى حقيقة علمية لو أنفقنا أضعاف هذا المبلغ لإقناع الناس بها ما صدقنا أحد ...!!
فسأل المحاور : وما هذه الحقيقة العلمية؟ فكان الجواب أن هذا القمر كان قد انشق في يوم من الأيام ثم التحم بدليل وجود تمزقات طويلة جدا وغائرة في جسم القمر ، تتراوح أعماقها بين عدة مئات من الأمتار وأكثر من الكيلو متر وأعراضها بين نصف الكيلو متر وخمسة كيلو مترات وتمتد إلى مئات من الكيلو مترات في خطوط مستقيمة أو متعرجة . وتمر هذه الشقوق الطولية الهائلة بالعديد من الحفر التي يزيد عمق الواحدة منها على تسعة كيلو مترات ، ويزيد قطرها على الألف كيلو متر ، ومن أمثلتها الحفرة العميقة المعروفة باسم بحر الشرق (MareOrientalis) .
وقد فسرت هذه الحفر العميقة باصطدام أجرام سماوية بحجم الكويكباتآ
(ImpactofAsteroid-SizedObjects) أما الشقوق التي تعرف باسم شقوق القمر
(RimaeorLunarRilles) فقد فسرت على أنها شروخ ناتجة عن الشد الجانبي
(TensionalCracks) أو متداخلات نارية على هيئة الجدد القاطعة ، ولكن أمثال هذه الأشكال على الأرض لا تصل إلى تلك الأعماق الغائرة ، ومن هنا فقد فسرت على أنها من آثار انشقاق القمر وإعادة التحامه .يقول السيد بيدكوك : حين سمعت هذا الكلام انتفضت من فوق الكرسي الذي كنت أجلس عليه أمام التلفاز ، وتساءلت : معجزة تحدث لمحمد (صلى الله عليه وسلم) من قبل ألف وأربعمائة سنة يثبتها العلم في زمن التقنية الذي نعيشه بهذه البساطة ، وبهذا الوضوح الذي لا يخفي على عالم في مجال علم الفلك اليوم ، فلابد أن يكون القرآن حقا مطلقا وصادقا صدقا كاملا في كل خبر جاء به; وعلى الفور عاودت القراءة في ترجمة معاني القرآن الكريم ، وكانت هذه الآية التي صدتني في بادئ الأمر عن الاستمرار في قراءة هذا الكتاب المجيد هي مدخلي لقبول الإسلام دينا .
ولا أستطيع أن أصف لكم وقع هذه الكلمات ، ووقع النبرة الصادقة التي قيلت بها على كل الحضور من المسلمين وغير المسلمين فقد هزت القلوب والعقول ، وأثارت المشاعر والأفكار ، ولم أجد ما أقوله أبلغ من أن أردد قول الحق (تبارك وتعالى) : " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " (فصلت:53).
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ
أدوات القراءة
- أصغر صغير متوسط كبير أكبر
- Default Helvetica Segoe Georgia Times
- قراءة خاصة