" أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ " (ق:6).
ردا على منكري البعث يعرض القرآن الكريم في مطلع سورة ق لعدد من الأدلة المنطقية المثبتة لكمال القدرة الإلهية المبدعة ، والشاهدة على إحاطة علم الله تعالى بكل صغيرة وكبيرة في الكون ، والناطقة بعظيم حكمته في خلقه وفيما أنزل من علم ، والمؤكدة أن الله تعالى الذي خلق هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه ـ على غير مثال سابق ـ هو القادر على إفنائه وعلى إعادة خلقه من جديد ، وذلك لأن قضية البعث كانت دوما حجة الكافرين والملحدين والمتشككين !!! .ومن أول هذه الأدلة إحكام بناء السماء ، ورفعها بغير عمد مرئية ، وتزيينها بالكواكب والنجوم والبروج وغير ذلك من أجرام السماء ، وسلامتها من كل نقص يمكن أن يعيبها في شيء ، ومن كل خلل
يمكن أن ينتابها حتى يأتي أمر الله بتدميرها فيفنيها ويعيد إبدالها وإبدال الأرض بغيرهما من جديد !!! .
والاستشهاد بالسماء وببنائها وزينتها وبسلامتها من كل عيب ونقص وخلل منطلق من حقيقة أن السماء هي إحدى صفحات الكون المفتوحة أمام كل ذي بصر وبصيرة ، الناطقة بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة ، والصارخة في كل غافل عن الحق ، وكل منكر للخلق ، وكل جاحد للبعث ، وكل متنكر لله الخالق أو مشرك به - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - أن انظر إلى السماء وما حوت من أجرام ، ومن مختلف صور المادة والطاقة ، في سعة من المكان ، وتقادم في الزمان ، وترابط وإحكام ، وحركة وانتظام ، دون توقف أو اصطدام ، وارتفاعات مذهلة بغير عمد مرئية ، وجمال وزينة ، وتكامل واتساق ، لا تشوبه شائبة ، ولا يعتريه أدني قدر من الخلل أو النقص الذي يعيب الكمال من مثل التصدع أو الانفراج أو التشقق ، وفي ذلك يقول الحق - تبارك وتعالى - : " ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ .بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ . أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ . قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ . بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍآ . أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ " (ق:1-6).ووصف السماء بتمام البناء ، وجمال الزينة ، والتكامل والاتساق الذي لا تشوبه شائبة جاء في عدد غير قليل من آيات القرآن الكريم من مثل قول الحق (تبارك وتعالى ) : " الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إليكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ " (الملك:4،3) وهنا يبرز التساؤل عن بناء السماء ، وعن زينتها ، وعن كمالها واتساقها وعدم وجود (فروج) فيها بمعني أدني قدر من الشقوق ، أو التصدعات في بنائها ، وقبل الإجابة عن ذلك لابد من التعرض لمدلول الألفاظ ، بناء ، وزينة ، وفروج في كل من اللغة العربية والقرآن الكريم وهذا ما سوف نتناوله في السطور التالية :
المدلول اللغوي لألفاظ الآية الكريمة :
أ & ب : محاكاة بالحاسب الآلي لبناء التجمعات المجرية تشير إلى وجود الأربطة الكونية بين مناطق مظلمة .
ج & د : رسومات تخطيطية لأربع شرائح من سور المجرات العظيم وتبدو فيها المجرات والمناطق المظلمة العملاقة الفاصلة بينها , يقال في اللغة العربية : (بني) ، (يبني) ، (بناء) أو دارا بمعني شاد بيتا ، والبناء اسم لما يبني بناء ، ومن مرادفات (البناء): (البنية) و (البنيا) و (البني) بضم الباء ، و (البني) و (البنية) بكسرها ، وكذلك (البنيان) وهو واحد لا جمع له ، وقيل هو جمع (بنيانة) وهذا النوع من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه.
ويقال: (بني) الرجل بعروسه بمعني زف إليها ، وكل داخل بأهله (بان) وهذا من قبيل الاستعارة .
أما عن الفعل (زين) فيقال (زين) الشيء (يزينه) (تزيينا) بمعني جمله ورتبه بالقول أو بالفعل أو بهما معا ، وعلى ذلك فكل من الحجام والحلاق (مزين) ، كذلك يقال (زان) الشيء (يزينه) (زينة) بمعني أضفى عليه من نفسه أو فعله شيئا من الجمال ، ويقال: (تزين) و (ازدان) أي تجمل (ازينت) الأرض و (ازينت)[ وأصله (تزينت) فأدغم] إذا اكتست بشيء من الخضرة ، و (تزيين) الله للأشياء إبداعه لها بزينة وإيجادها كذلك ، و (تزيين) الناس للشيء بتزويقهم إياه بفعلهم (أي بإضافة شيء جميل إليه) أو بقولهم وهو أن يمدحوه ، ويذكروه بما يرفع من قدره ويغري الناس به .
و (الزينة) ما (يتزين) به أو ما (يزين) الإنسان أو الشيء ، أي ما يجمله ولا يشينه في شيء من أحواله ، و (يوم الزينة) هو يوم العيد ، و (الزين) عموما هو ضد الشين .
أما عن (فروج السماء) فهي جمع (فرج) بفتح ثم سكون ، و (الفرجات) جمع (فرجة) . وهو الشق بين الشيئين كفرجة الحائط وما أشبهه ، ويقال في اللغة (فرج) من الغم أو من الهم (فرجة) و (فرجا) أي خرج منه ، و (الفرج) هو انكشاف الهم والغم ، ولذلك يقال: (فرج) الله غمه (وفرجه) (تفريجا) أي أزاله عنه ، و (الانفراج) السعة المادية أو المعنوية بعد ضيق ، أو الاتساع بالشق أو الفتق في شيء متماسك ومتصل ، وللفظة دلالات أخرى عديدة تخرج عن نطاق المقصود في الآية الكريمة التي نحن بصددها .
المدلول القرآني لألفاظ الآية الكريمة :
جاءت مادة (بني) بمختلف مشتقاتها في القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعا ، منها سبع مرات متعلقة ببناء السماء ، وخمس عشرة مرة متعلقة بالبنيان على الأرض ، وفي كل الحالات خصت السماء بالوصف (بناء) وخص تشييد الإنسان على الأرض بالوصف (بنيان) ، وهذا أمر له دلالته العميقة في الإشارة إلى الفرق بين صنع الله وصنع الإنسان في القضية الواحدة .
وجاء الفعل (زين) بمختلف مشتقاته في القرآن الكريم ستا وأربعين مرة منها ست مرات متعلقة بالسماء ، وأربعون مرة متعلقة بزينة الناس (أفراداً وجماعات) أو بمناسباتهم المبهجة من مثل الأعياد ، أو بزينة الأرض حينما تكسوها الخضرة ، أو بتزيين الله تعالى العمل للأمم (أفراداً وجماعات) أو بمعني تزيين الشيطان للمعاصي وأعمال السوء في أنظار بعض الناس .
وقد سبق الحديث عن كل من بناء السماء وزينتها في عدد من المقالات السابقة ، ولا أرى داعيا لتكرار ذلك هنا ، وعليه فإن هدف هذا المقال يتركز حول إثبات تماسك السماء ونفي كل صورة من صور الخلل او الاضطراب فيها والتي عبر عنها القرآن الكريم بقول الحق (تبارك وتعالى) : و " ما لها من فروج " (ق:6) .
وجاء الفعل (فرج) بمشتقاته في القرآن الكريم تسع مرات ، منها اثنتان متعلقتان بالسماء والباقي بمعني صون العرض ، والآيتان المتعلقتان بالسماء جاء فيهما قول الحق تبارك وتعالى : " أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ " (ق:6)
بمعني أن مالها من شقوق أو فتوق .
" وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ " (المرسلات:9) بمعني انشقت . والمعني في الحالتين يشير إلى سلامة السماء في الدنيا من العيوب وانشقاقها في الآخرة .
" أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ " (ق:6).
آراء المفسرين :
ذكر ابن كثير (يرحمه الله) أن الله تعالى يقول منبها للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبون منه مستبعدين وقوعه : " أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ " (ق:6) , أي بالمصابيح ، (وما لها من فروج) قال مجاهد: يعني من شقوق; وقال غيره: فتوق; وقال غيره: صدوع; والمعني متقارب ، لقوله تبارك وتعالى : " ما تري في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل تري من فطور " (الملك:3) .
وذكر صاحبا تفسير الجلالين (يرحمهما الله): أفلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم حين أنكروا البعث (إلى السماء) كائنة فوقهم (كيف بنيناها) بلا عمد (وزيناها ) بالكواكب ومالها من فروج شقوق تعيبها .وذكر مخلوف (يرحمه الله) : أفلم ينظروا .. شروع في بيان بعض أدلة القدرة التامة على البعث ، ردا لاستبعادهم إياه ، وهو سبعة أدلة; أي اغفلوا أو عموا فلم ينظروا ـ حين أنكروا البعث ـ إلى السماء فوقهم كيف أحكمنا بناءها ، ورفعناها بغير عمد ، وزيناها بالكواكب ، (ومالها من فروج) شقوق وفتوق وصدوع ، جمع فرج وهو الشق بين الشيئين ، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل .
ويذكر صاحب الظلال (يرحمه الله) : أن هذه السماء صفحة من كتاب الكون تنطق بالحق الذي فارقوه ، أفلم ينظروا إلى ما فيها من تشامخ وثبات واستقرار؟ وإلى ما فيها بعد ذلك من زينة وجمال ، وبراءة من الخلل والاضطراب!!! إن الثبات والكمال والجمال هي صفة السماء التي تتناسق مع السياق هنا ، مع الحق وما فيه من ثبات وكمال وجمال ، ومن ثم تجيء صفة البناء وصفة الزينة وصفة الخلو من الثقوب والفروج .
ويقول الصابوني (أمد الله في عمره) : ثم ذكر الله تعالى دلائل القدرة والوحدانية الدالة على عظمة رب العالمين فقال : " أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم " أي أفلم ينظروا نظر تفكر واعتبار إلى السماء في ارتفاعها وإحكامها ، فيعلموا أن القادر على إيجادها قادر على إعادة الإنسان بعد موته!!! " كيف بنيناها وزيناها " أي كيف رفعناها بلا عمد ، وزيناها بالنجوم ، " وما لها من فروج " أي ما لها من شقوق وصدوع .وقد أجمع المفسرون الذين تعرضوا لشرح هذه الآية الكريمة على اعتبار الحرف (ما) في قول الحق (تبارك وتعالى) ، (وما لها من فروج) انه حرف نفي أي أن السماء خالية من الفروج التي قد تنبئ بخلل ما في بنائها وذلك لأن انفراج السماء وانفطارها وانشقاقها من علامات الآخرة لقول الحق تبارك وتعالى : " وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ " (المرسلات:9) .
" وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ المَلائِكَةُ تَنزِيلاً " (الفرقان:25) .
" فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ " (الدخان:10) .
" فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ " (الرحمن:37) .
" يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً " (الطور:9) .
" وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ " (الحاقة:16) .
" يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ " (المعارج:8) .
" السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً " (المزمل:18) .
" وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً " (النبأ:19) .
" وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ " (التكوير:11) .
" إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ " (الانفطار:1) .
" إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ " (الانشقاق:1) .
وهذه الآيات كلها تشير إلى الآخرة ، وتصور القيامة وأهوالها وشيئا من مشاهدها المرعبة ، وأحداثها العظام ، وتؤكد سلامة سماء الدنيا من كل هذه الأوصاف .
هل يمكن للآية الكريمة أن تحمل معني وجود فروج في السماء؟
أجمع المفسرون كما سبق وأن أشرنا على أن الحرف (ما) في قول الحق (تبارك وتعالى ) " وما لها من فروج " هو حرف نفي ينفي وجود فروج بالسماء تنبئ بضعف أو خلل في بنائها ، ولكن انطلاقا من وجود مناطق مظلمة إظلاما تاما في السماء الدنيا نظرا لخلوها من النجوم وتجمعاتها سماها علماء الفلك مجازا بالفراغات أو الفجوات نسبة إلى خلوها من الأجرام المضيئة اندفع نفر قليل من علماء المسلمين إلى الاقتراح بأن (ما) في هذه الآية الكريمة قد تكون اسما موصولا بمعني (الذي ) وليست (ما) النافية ، وذلك في محاولة لإثبات وجود فروج في السماء ، وتصوروا أن هذا الاستنتاج يجعل الآية كلها تقرأ في الصيغة التعجبية الاستفهامية التي بدأت بها الآية بمعني : " أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا " وأفلم ينظروا ما للسماء من فروج ؟.
وهذا الاستنتاج مخالف لنصوص القرآن الكريم التي تجمع على غير ذلك ، وعلى ان انفراج السماء وانفطارها وانشقاقها هو من علامات الآخرة ، ولا وجود لها ، في سماء الدنيا كما سبق أن أشرنا ; ليس هذا فقط بل إن الدراسات الفلكية والفيزيائية تنفي إمكانية وجود فراغات في الجزء المدرك من الكون وذلك للأسباب التالية :
أولاً : المناطق المظلمة من الكون المدرك لا تعني وجود فراغات فيه :
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين قام عدد من الفلكيين بعملية مسح للجزء المدرك من السماء لعمل خرائط جديدة له ثلاثية الأبعاد ، وفي أثناء ذلك لاحظوا وجود العديد من المناطق المظلمة التي لا تحتوي نجوما مضيئة بين المجرات ، وسموها مجازا (بالفجوات) أو (الفقاعات) وانطلقوا من ذلك إلى الاستنتاج بأن الكون المدرك يشبه قطعة الإسفنج المليئة بالفجوات ، وتمثل المجرات فيها خيوط الإسفنج المنسوجة بإحكام حول تلك الفجوات ، واعتبروا تلك الفجوات خيوطا كونية عملاقة سموها باسم .
ولما كانت فجوات الإسفنج ليست فراغا لامتلائها بالهواء أو بالماء ، فإن المناطق المظلمة بالكون المدرك ليست فراغا لامتلائها بالدخان الكوني ، وبمختلف صور الأشعة الكونية ، بل قد يكون فيها من صور المادة والأجرام الخفية ما يفوق كتل المجرات المحيطة بها مجتمعة ، ويعتقد عدد من الفلكيين المعاصرين أن هذه المناطق المظلمة تتكون أساسا من المواد الداكنة الباردة . التي تمثل الكتلة المفقودة في الكون المدرك ، وقد تحتوي على أعداد من النجوم الخانسة ذات الكثافات الفائقة والمعروفة باسم الثقوب السود ، وأن هذه المادة الداكنة الخفية والنجوم الخانسة التي أمكن إدراكها بطرق غير مباشرة ، أمكن حساب كتلتها بما يزيد على تسعين بالمائة من كتلة الجزء المدرك من الكون .
ففي سنة1981 م اكتشف عدد من الفلكيين تلك المناطق المظلمة من الكون المدرك في كوكبة العواء أو كوكبة راعي الشتاء التي تقع في نصف الكرة الشمإلي ، وظنوها فراغات هائلة أو فقاعات عظيمة ، ثم تبين لهم بعد ذلك أن أمثال تلك المناطق المظلمة منتشرة في مختلف أرجاء الكون المنظور ، وحتى في داخل مجرتنا ، وأنها من أساسيات النظام الكوني ، ومن أسرار بنائه ، وأن لها دورا مهما في تماسك ذلك البناء .
" أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ " (ق:6).
وفي سنة 1989م تم اكتشاف ما يسمى باسم الحائط العظيم وهو عبارة عن حشد هائل من تجمعات المجرات يبلغ طوله نحو مائتين وخمسين مليونا من السنين الضوئية ، وعرضه نحو مائتي مليون ، وسمكه نحو خمسة عشر مليونا من السنين الضوئية ، وقد اكتشف الفلكيون في داخل هذا الحائط العظيم العديد من المناطق المظلمة الشاسعة الأبعاد ، التي تفصل بين كل من المجرات والتجمعات المجرية بمختلف مستوياتها ، وتبدو هذه المناطق المظلمة وكأنها مناطق جذب فائقة الشدة ، مرتبة ترتيبا دقيقا وبأشكال هندسية محددة ، وتتوزع المجرات حولها ، وكأنها خلايا عظيمة البناء متصلة بشكل هندسي بديع حول المناطق المظلمة التي يبدو أنها مشدودة إلى مراكز تلك المناطق بقوي فائقة للغاية إلى ما قد أُشيرَ إليه آنفا باسم المادة الداكنة التي يراها البعض أربطة كونية فائقة
على هيئة جسيمات فائقة الكتلة لم يمكن اكتشافها بعد ، أو على هيئة قوة كهرومغناطيسية ذات موجات غير معروفة تؤثر في المادة التي تنتشر حولها وقد تكون ناتجة عن الحركة الدورانية الشديدة في كل أجرام السماء .
وهذه الكتل المظلمة أو الفقاعات الدخانية الضخمة التي لا تحوي أية أجرام منظورة ، قد تضم بجوار المادة الداكنة والأجرام غير المنظورة أعدادا هائلة من الجسيمات المادية والإشعاعات الكونية ، وربما بعض الغازات المتأينة المعروفة باسم البلازما ويبدو أنها من أسرار بناء السماء ، ومن ضرورات قيامها واتزانها ، ومن لوازم انتشار كل من المادة والطاقة في مختلف أرجائها ، وأن لها دورا مهما في بناء التجمعات المجرية العظمي يفوق دور تجاذب المجرات فيما بينها ويعتقد بأن هذه الفقاعات الدخانية قد تكونت عقب عملية الانفجار العظيم بعد فترة من الزمن كافية لتجمع اللبنات الأولية للمادة الناشئة عن ذلك الانفجار على هيئة ذرات ، ويعتقد كذلك بأن المجرات قد تكونت بتكدس عدد من تلك الفقاعات الدخانية على ذاتها بفعل الجاذبية ، كما يعتقد بأن تفكك المجرات في مراحلها النهائية قد يؤدي إلى تكون مثل هذه الفقاعات الدخانية ، ويمكن بذلك أن يفسر نشأة أشباه النجوم التي تنتشر اليوم على أطراف الجزء المدرك من الكون .
ففي يناير سنة1988م تم اكتشاف شبيه نجم على مسافة تقدر بنحو (16850) سنة ضوئية منا ، وفي أغسطس من نفس السنة تم اكتشاف مجرة راديوية تبعد عنا خمسة عشر بليونا من السنين الضوئية ، وفي نهاية سنة1989م تم اكتشاف شبيه نجم يبعد عنا بمسافة (17400) مليون سنة ضوئية ، ويعتبر بعده أقصي حد وصل إليه علماء الفلك في الجزء المدرك من الكون الذي يتسع باستمرار .
ثانيا: اتساع الكون ينفي وجود فراغات فيه :
ثبت لنا في مطلع القرن العشرين أن كوننا دائم الاتساع وأن هذا الاتساع ناشئ عن تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض ، وبهذا التباعد تتخلق المادة و الطاقة من حيث لا يدرك العلماء ، لأن كلا من المكان والزمان والمادة والطاقة قد تم خلقه بعملية الانفجار العظيم ، ويتجدد خلقه بتمدد الكون واتساعه ، فلا يوجد مكان بغير زمان ، ولا زمان بغير مكان ، ولا يوجد مكان وزمان بغير مادة وطاقة .
ويؤدي تباعد المجرات إلى اتساع أفق الكون بالنسبة لموقعنا منه ، ونحن لا نستطيع أن نرى من هذا الموقع ما وراء الأفق ، ومن المفروض أنه باتساع الكون وتباعد الأفق الكوني عنا في كل لحظة أنه يمكن لنا أن نرى أجراما سماوية جديدة على حافة ذلك الأفق باستمرار ، وأن تختفي عن رؤيتنا أجرام قديمة وتخرج عن مجال رؤيتنا ولكن أجهزتنا الفلكية الحالية لا تتيح لنا التحقق من ذلك على الرغم من تطورها المذهل ، وذلك لأن أفق الكون يبتعد عنا بتمدده بسرعات تقترب أحيانا من سرعة الضوء (نحو92% من سرعة الضوء) ، وعلى الرغم من ذلك فإنه انطلاقا من وحدة البناء في الجزء المدرك لنا من السماء فإننا نعتقد بأن القوانين الحاكمة للكون واحدة وسارية في كل أجزائه على الرغم من أن النقطة التي بدأت منها عملية الانفجار العظيم لم يتم تحديد موقعها بعد ، وهي بالتأكيد أبعد بكثير من الحافة المدركة للجزء المرئي من السماء ، الذي يقدر قطره بنحو19 ـ23 بليون سنة ضوئية .
ثالثا : المادة المضادة في الكون تنفي وجود فراغات فيه :
في سنة1924م أثبت العالم الفرنسي (دي بروجلي) أن الإلكترون يتصرف أحيانا في ظروف معينة على أنه موجة إشعاعية غير ماديةوما ينطبق على الإلكترون ينطبق على أي لبنة أخري من اللبنات الأولية للمادة.
وفي سنة1925 م وضع كل من هايسنبرج الألماني وشرودنجرالنمساوي منفردين القواعد الأساسية لميكانيكا الكم وللميكانيكا الموحيةوكلاهما يبحث في الأسباب التي تؤدي بالكم الضوئي أو الفوتون لأن يتصرف أحيانا على هيئة جسيم مادي وأحيانا أخري على هيئة موجة اشعاعية .
وفي نفس السنة 1925م أعلن باولي مبدأ الاستبعاد الذي يؤكد أن زوجين من الإلكترونات داخل الذرة الواحدة لا يمكن أن يكون لهما نفس العدد الكمي ، وبالتالي لا يمكن أن يكون لهما نفس المدار حول النواة ، ونفس السرعة ، وينطبق هذا القانون فقط على الجسيمات الأساسية التي تدخل في تركيب الذرة .
وفي سنة 1931م أعلن ديراك النظرية المتناسبة للإلكترون التي أشار فيها إلى وجود الكترون بشحنة وطاقة مختلفتين تم اكتشافه بعد ذلك بسنة واحدة (1932م) في الأشعة الكونية بواسطة كارل أندرسون وسمي باسم البوزيترون , وتسلسل بعد ذلك اكتشاف نقائض لباقي الجسيمات الأولية للمادة من مثل نقيض البروتون واعتبرت نقائض المادة في مواجهة المادة حقيقة من حقائق كوننا المدرك ، حيث ثبت أن لكل جسيم مادي نقيضه أي جسيما يماثله تماما في الكتلة والحجم والسرعة ولكن له شحنة مضادة ويدور بطريقة معاكسة ، وثبت انه إذا التقي الضدان فإنهما يفنيان فناء تاما .
وقد تساءل العلماء عن كيفية بقاء عالمنا المادي مع وجود كل من المادة وأضدادها وكلاهما يفني بلقاء الآخر وقد فسر ذلك بان كلا من المادة والمادة المضادة قد تجمع على ذاته لتكوين تجمعات سماوية خاصة به بمعني وجود عوالم من المادة المضادة مغايرة لعالمنا المادي لا نراها ولا نعلم عنها شيئا ، وهذا وحده غير كاف لإثبات وجود فراغات في السماء .
رابعا : مراحل خلق الكون المدرك :
تنفي وجود أية فراغات في السماء تؤكد الدراسات الفيزيائية والفلكية انه نتيجة لواقعة الانفجار العظيم (أو فتق الرتق) تم خلق كل من المكان والزمان والمادة والطاقة في فترة تقدر بحوالي 1510 ثانية (أي ألف مليون مليون ثانية أي حوالي الثلاثين مليون سنة تقريبا بعد الانفجار العظيم) مر فيها الكون بمراحل يتصورها علماء الفيزياء الفلكية على النحو التالي :
1- عصر الكواركات والجليونات : وتقدر له الومضة من 10-43 ثانية إلى 10-32 ثانية وتتميز بحالات كثيفة للمادة وأضدادها وان كانت نسبة الكواركات تفوق أضدادها كما تميزت بالتضخم والتوسع الانفجاريين وبانفصال كل من قوة الجاذبية والقوة النووية الشديدة كقوتين متميزتين .
2- عصر اللبتونات : ويقدر له الومضة من 10-32 ثانية إلى 10-6 ثانية بعد الانفجار العظيم وفيها تمايزت اللبتونات من الكواركات وظهرت البوزونات(bosons ) وكانت فيه كل من القوة النووية الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية متحدتين على هيئة القوة الكهربية الضعيفة ."
3- عصر النيوكليونات وأضدادها : وتقدر له الفترة بين 10 ثانية إلى 225 ثانية بعد الانفجار العظيم وفيها اتحدت الكواركات لتكوين النيوكيلونات وأضدادها .
وانفصلت القوي الأربع المعروفة (الجاذبية ، النووية الشديدة ، النووية الضعيفة والكهرومغناطيسية) .
4- عصر تخليق نووي الذرات : وتقدر له الفترة من225 ثانية إلى ألف ثانية بعد الانفجار العظيم وفيها تخلقت نوى ذرات الإيدروجين (74%) والهيليوم (25%) وبعض النوى الأثقل قليلا (1%) وفيه سادت المادة .
5- عصر الايونات : وتقدر له الفترة من 310 ثانية إلى 1310 ثانية بعد الانفجار العظيم وفيه تكونت غازات من ايونات كل من الإيدروجين والهيليوم وأخذ الكون في الاتساع والتبرد التدريجي .
6- عصر تخلق الذرات : وتقدر له الفترة من 1310 ثانية إلى 1510 ثانية وفيه تخلقت الذرات المتعادلة وارتبطت بالجاذبية وأصبح الكون شفافا لمعظم موجات الضوء .
7- عصر تخلق النجوم والمجرات : وتقدر له الفترة من 15/10 ثانية إلى اليوم وإلى أن يشاء الله ، ويتميز ببدء عملية الاندماج النووي لتكوين نوى ذرات أثقل من الإيدروجين .
وهذه المراحل المتتالية تؤكد أن المادة والطاقة ملأتا المكان والزمان منذ اللحظة الأولى للانفجار العظيم وظلا يملآنه مع استمرار تمدد الكون وإن كان ذلك يتم بتباين واضح في تركيز وجودهما من نقطة إلى أخرى في الجزء المدرك من الكون .
خامسا : المادة بين الكواكب والنجوم والمجرات :
تنفي وجود فراغات في الجزء المدرك من الكون إلى عهد قريب كان علماء الفلك يعتقدون أن أجرام السماء تسبح في فراغ تام ولكن البحوث المتأخرة أثبتت أن المسافات بين كل من النجوم وتجمعاتها المختلفة (المجرات وتجمعاتها إلى نهاية الجزء المدرك من الكون) تنتشر فيها الأشعة الكونية وما تحمله من جسيمات أولية والدخان الكوني وما يحمله من هباءات الرماد بالإضافة إلى ما يعرف باسم المادة الداكنة والتي اقترح وجودها الفلكي السويسري فريتز زفيكي في سنة 1933م حين اكتشف أن الكتلة الكلية المحسوبة في كوكبة العذراء تفوق بكثير مجموع كتل المجرات المكونة لها وفي سنة 1992م أعلن علماء الفلك والفيزياء الفلكية الاحتمال الكبير لوجود تلك المادة الداكنة والتي لا تُرى والتي يقترحون أنها تتركب من جسيمات ذرية جديدة لم تكتشف بعد وتسمي الويمبات أو الجسيمات الثقيلة التي تمثل نوعا من الخيوط الكونية التي تربط أجرام السماء وتحمل الأوامر الكونية كما تحملها لبنات الشفرة الوراثية في أجساد الكائنات الحية وربما تفسر المادة الداكنة الكتلة المفقودة في الكون كالتي أدركها زفيكي في الثلث الأول من القرن العشرين وكذلك يمكن أن تفسر طبيعة مناطق الجاذبية العملاقة التي تربط التجمعات المجرية العظمي مع بعضها البعض .
هذه الأدلة مجتمعة تنفي وجود فراغات في الكون المدرك وسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة تأكيد هذه الحقيقة الكونية فقال (عز من قائل) : " أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ " (ق:6).
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ
أدوات القراءة
- أصغر صغير متوسط كبير أكبر
- Default Helvetica Segoe Georgia Times
- قراءة خاصة