لم يجعل الله سبحانه وتعالى للبشر سلطانا في تغيير أو تبديل شرائعه التي انزلها على خلقه, ولم يسمح لإنسان مهما كان قدره أن يتدخل فيها, حتى الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام كانت مهمتهم تبليغ رسالات الله للناس ودعوتهم إليها والعمل على إيصال هذه الدعوة لهم دون تدخل في أصل شريعة.
ولهذا يقول الله في الحوار الذي يخبرنا بأنه سوف يحدث يوم القيامة بينه سبحانه وبين عيسى عليه السلام "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ", فلي من حق أي إنسان مهما علا شأنه أن يبدل في العقيدة التي أمر الله بها.
ولذلك كانت مهمة الأنبياء قبل وبعد عيسى عليه السلام هي تبليغ دعوة الله للناس "وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ", ومهمة البلاغ تجعل من النبي حامل رسالة للناس لا مشرع بشرع مخالف لما تحمله رسالته.
وهكذا كان الأنبياء حينما ابلغوا أقوامهم وتركوهم على المحجة البيضاء, ولكن الناس -كعادة أغلبهم بعد أن يطول عليهم الأمد- ينسون ما ذكروا به ويحرفون ويبدلون في الرسالات و ويتولى كبر هذا المنكر رجالات منهم يضلون ويُضلون غيرهم, فيبدءون في التشريع باسم الله سبحانه ويغيرون من شرائعه ما لم ينزل به سلطانا.
وفي النصرانية وبعد أن افسد بولس الديانة النصرانية وادخل فيها كثيرا من ضلالات الأمم الأخرى جاءت ما تعرف بالمجامع المسكونية التي أخذت جانب التشريع في النصرانية بما يخالف اصل العقيدة التي بنيت على التوحيد لتأتي بكل ما يناقض التوحيد ولتختلف فيما بينها في تفصيلات كثيرة تبتعد باضطراد عن العقيدة السمحة الصافية التي جاء بها عيسى عليه السلام.
فبعد مرور قرابة أربعة قرون على رفع المسيح عليه السلام إلى السماء وفي عهد قسطنين بدأت فكرة تدعى عند الكنيسة الرومية بالمجمعيّة وتماثلها السينودسيّة عند الكنائس الأرثوذكسيّة وهي تعني إعطاء المجامع السلطة المطلقة في الكنيسة لتضع من الشرائع العقائدية والأحكام ما تشاء مما يتفق عليه الاساقفة حتى لو خالف اصل عقيدتهم وأحكامهم, وفي هذا اغتصاب للسلطة الإلهية المنفردة في العقيدة والتشريع والحكم.
وأصل كلمة "مسكونية " مشتقة من "مسكونة" وهي تعني العالم المسيحي، وعليه فالمجامع المسكونية اجتماعات عقائدية من حيث الأصل لتعيد صياغة معتقدات النصارى, واختلف النصارى في عددها إذ يعترف البعض بما لا يعترف به الآخرون وعددها في الأغلب عشرون مجمعا, وأهمها السبع المجامع الأولى ابتداء من مجمع نيقية سنة 325م إلى مجمع نيقية الثاني سنة 787م.
1. مجمع نيقية الأول سنة (325) م.
2. مجمع القسطنطينية الأول 381 م.
3. مجمع افسس 431 م.
4. مجمع خلقدونية 448م.
5. مجمع القسطنطينية الثاني 553 م.
6. مجمع القسطنطينية الثالث 680 م.
7. مجمع نيقية الثاني 787 م.
وتعترف الكنائس الشرقية الأرثوذكسية (القبطية و السريانية و الأرمنيّة) بالسبعة المجامع المسكونية الأولى فقط عدا مجمع خلقدونية 448.
ورغم ادعاء النصارى دوما بأنهم يفصلون بين ما لقيصر وما لله إلا أن هذه المجامع لا تجتمع إلا بدعوة من إمبراطور بيزنطة بنفسه ويجب أن يحضرها غالبية أساقفة الكنيسة ويكون بسبب وجود بدعة أو انشقاق عقائدي يريدون أخذ قرار فيه.
والعجيب ان أول سبب لإقامة أول مجمع مسكوني وهو مجمع نيقية الأول كان بدعوة من الامبراطور قسطنطين الأول لدراسة ما سميت ببدعة اريوس – وهو الذي كان يدعو الناس لبشرية المسيح!!
واريوس كاهن ليبي عاش في الإسكندرية تتلمذ على لوقيانوس الانطاكي, وتمثلت بدعته المزعومة في أن الآب وحده الله الفرد الصمد والابن مخلوق مصنوع فأنكر بذلك ألوهية الابن وأنكر أزليته أيضا قائلا بأنه كان هناك وقت لم يكن الابن موجودا فيه واعتبره رفيعا بين مخلوقات الله ومِنْ صُنْعِهِ كما أن الروح القدس من صُنْعِه أيضا, وهذا ما اعتبروه مروقا عن النصرانية, فعارضه الكسندروس الأول بابا الإسكندرية حينئذ فقال إن طبيعة المسيح هي من نفس طبيعة الله, والأغرب أنه بعد انعقاد المجمع تغلب رأي الكسندروس الأول وذلك عن طريق الاقتراع!! ورفض آريوس واثنان من القساوسة معه التوقيع على ما وصل إليه المجمع فوجد اريوس قتيلا في مكان التبول وقد انشقت بطنه وخرجت احشاؤه, ثم حرقت كتب آريوس وسمي مذهبه ببدعة اريوس ولقب أتباعه إلى اليوم بلقب أعداء المسيحية.
وهكذا نجد أن مجمع نيقية رفض التوحيد الخالص لذي جاء به عيسى عليه السلام ليحولها وثنية وتثليث وسمى من قال بها بأعداء المسيحية وحرقوا كتبهم وقتلوا معظمهم وسادت الوثنية الديانة النصرانية للآن, والشئ الذي يجب الانتباه له والتوقف طويلا عنده أن مناقشة اخطر نقاط العقيدة النصرانية والترجيح بينها في المجمع المسكوني الذي يشهده علماء النصرانية يتم الحسم فيها عن طريق الاقتراع, وفي هذا سخرية شديدة بشرائع الله التي تبدل وتحرف عن طريق الاقتراع!!.
المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية سنة 381
وانعقد المجمع بدعوة الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبير لمناقشة ما سميت ببدعة أبوليناريوس أسقف اللاذقيّة الذي قال إن مُلْك المسيح يدوم ألف سنة فقط, فأضاف المجمع لتعريف المسيح جملة: "لا فناء لملكه" وأعلنوا أنه "منبثق من الآب" وهو مع الآب والابن مسجود له وممجّد", وبهذا جعلوا عيسى عبد الله ورسوله منبثقا من الله وله السجود والتمجيد, تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا, كما ناقش المجمع ما سميت ببدعة مكدونيوس الذي قال بأن "الروح القدس مخلوق كمثل الملائكة" فاعتبروا كلامه هرطقة ومنافاة للعقيدة المسيحية التي يقولون فيها أن الروح القدس هو الأقنوم الثالث وهو إله أيضا منبثق من الآب!!, وعلى هذا حرم مكدونيوس وتم تحريم تعاليمه ثم أضافوا جزء إلى قانون الإيمان قالوا فيه: "نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب".
المجمع المسكوني الثالث مجمع أفسس 431 م
وجاء المجمع المسكوني الثالث ليناقش ما سمي ببدعة بيلاجيوس وهو قس من بريطانيا الذي كان ينادي بكلمات قريبة من أصول الشريعة لكنها في الوقت ذاته كانت تهدم ركنا عظيما من أركان الوثنية النصرانية, فكان ينادى بأن "خطية آدم قاصرة عليه دون بقية الجنس البشرى" وأن "كل إنسان منذ ولادته يكون كآدم قبل سقوطه". ثم قال أن "الإنسان بقوته الطبيعية يستطيع الوصول إلى أسمى درجات القداسة بدون انتظار إلى مساعدة النعمة", فحكم المجمع بحرمة ما يقوله, ولا نرى لذلك سببا إلا أنه سوف ينهي تلك الأكاذيب المفتراة حول المسيح كمخلص من الخطيئة التي يزعمون توارثها بين البشر من بعد آدم عليه السلام.
كما ناقش المجمع الوحدة الشخصية بين ابن الله والإنسان يسوع المسيح والخلاف بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية وهي التي كان يتبناها نسطوريوس بطريرك القسطنطينية الذي رفض أن يطلق على العذراء مريم لقب "والدة الإله" وهو اللقب الذي يطلقونه عليها.
وجاء رد المجمع على شكل رسالة من كيرلس الي نسطوريوس جاء فيها: "إننا نعترف بأن الكلمة صار واحدا مع الجسد, إذ اتحد به اتحادا شخصيا. فنعبد الشخص الواحد الابن والرب يسوع المسيح. إننا لا نُفرق بين الله والإنسان ولا نفصل بينهما وكأنهما اتحدا الواحد بالآخر اتحاد كرامة وسلطة... ولا ندعو الكلمة المولود من الله مسيحا آخر غير المسيح المولود من امرأة. وإنما نعترف بمسيح واحد هو الكلمة المولود من الآب".
المجمع المسكوني الرابع مجمع خلقدونية 448م
وهو مختلف فيه فيقول أبناء لكنائس الشرقيّة (السريانية والأرمنيّة والقبطية) أن الرابع هو مجمع أفسس الثاني بينما يقول أبناء الكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة بأن مجمع خلقيدونية هو المجمع المسكوني الرابع.
ويعتبر مجمع خلقيدونية سنة 451م أخطر المجامع كلها إذ شهد انفصال الكنائس الشرقيّة الأرثوذكسيّة (السريانية والأرمنيّة والقبطية) عن الشركة مع الكنيستين الرومانيّة الكاثوليكيّة والبيزنطيّة الأرثوذكسيّة انفصالا لا تزال آثاره قائمة لليوم, فبعد مناقشة حول طبيعة المسيح انتهى المجتمعون لاعتبار أن للمسيح طبيعتين إلهية وبشرية بلا اختلاط ولا تحول ولا انقسام ولا انفصال!!, وقال بذلك الأساقفة الغربيون الذين لعنوا وطردوا من لا يقول بقولهم هذا, فاعترضت الكنائس الشرقية وأصروا على قرار مجمع (أفسس) بأن المسيح له طبيعة واحدة إلهية وبشرية، ومن هنا ظلت هذا الاختلاف في العقيدة من أهم الخلافات العقائدية بين الكاثوليك القائلين بالطبيعتين، والأقباط والأرمن والسريان القائلين بالطبيعة الواحدة, والعجيب أيضا أن هذا الخلاف العقائدي الكبير لا يمكن ان يضع الجميع في سلة واحدة فما يؤمن به بعضهم يكفر به البعض الآخر, ولا يمكن اعتبارهم في هذا الوقت –على اعتقادنا بضلال الفريقين معا– لا يمكن اعتبارهم بحال من الأحوال أنهم أصحاب ديانة واحدة.
المجمع المسكوني الخامس مجمع القسطنطينية الثاني 553 م
وعقد بدعوة من الإمبراطور يوستنيانوس الأول وفيه لم يسنوا تشريعات جديدة بل اكدوا على ما جاء في المجمع الرابع وحاولوا فقط كمحاولة لما أصابهم من إرهاق حول تفسير الكلمات الهلامية التي لا يمكن استيعابها من قبل أي ذي عقل, فحاولي إيجاد تبسيط لتفسير كيفيّة لما زعموه من اتحاد طبيعتَي المسيح في تكوين شخص واحد, وبالقطع حاولوا جاهدين للحصول على أي مبرر مقنع واي تفسير عقلي لما يقولونه من خرافات لا تقبلها العقول.
المجمع المسكوني السادس مجمع القسطنطينية الثالث 680 م
على الرغم من أن هذا المجمع كان مثل سابقه لم يصدر عنه أية تشريعات جديدة واكتفى فقط بحرمان بعض الكهنة والقساوسة اتباع بعض الأفكار السابقة إلا أن الهاجس الأكبر في هذا المجمع كان خطر التخوف من المسلمين حيث عقد هذا المجمع في خلافة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما حيث بدأت جيوش المسلمين تتجه بحلمها وبشارة نبيها صلى الله عليه وسلم لفتح القسطنطينية حيث لم تزل حتى ذلك الوقت وبعده لفترة زمنية طويلة معقل النصرانية الغربية ومحل إمبراطوريتها, فخرج جيش بقيادة يزيد بن معاوية وكان معه من الصحابة الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري.
ولهذا لم تخرج منه تعديلات على العقيدة النصرانية بل شهد هذا المجمع اكبر عودة ممن يسمونهم بالمهرطقين, ويبدو أن غلبة الشعور بالأزمة وضرورة الاجتماع غلبت عليهم فأنستهم خلافاتهم فعمد كثير منهم إلى ترك ما يقولونه.
المجمع المسكوني السابع مجمع نيقية الثاني 787 م
كان للإسلام أيضا تأثيره وحضوره على المجمع السابع إذ شهده نواب عن البابا ادريانوس وناب عن البطاركة الشرقيين الثلاثة القسان توما ويوحنا لأن الظروف السياسية في الدولة الإسلامية كانت شديدة على هؤلاء, وحيث شهد هذا العصر خلافات سياسية حادة وصراعات شديدة على كرسي الإمبراطورية لدرجة أنه دخل جنود شاهرين أسلحتهم على القساوسة وأخرجوهم بعدما اجتمع المجمع في القسطنطينية في كنيسة الرسل فدفعوا بالكهنة والقساوسة إلى خارج الكنيسة في إشارة بالغة لما وصل عليه حال ازدراء الدين ورجاله وأنهم ليس لهم قداسة من لناحية العملية وأنهم أصيبوا أيضا من جراء الخلافات السياسية, ولم يستطيعوا استكمال جلساتهم ولقاءاتهم إلا في العام التالي بعد استبدال حامية العاصمة بغيرها.
وتصور لنا رسالة طراسيوس بعد قبوله مضطرا المنصب البطريركي وهو يدعو لعقد هذا المجمع ما آل إليه حال التفرق العقائدي الشديد والخلافات العميقة بين النصارى فيقول "إني أرى وأنظر كنيسة المسيح المؤسسة على الصخرة التي هي المسيح إلهنا مقسومة الآن ومنشقة وإننا نحن كنا نقول قبلاً بغير ما نقول الآن. ومسيحيو الشرق المماثلون لنا في الإيمان يقولون قولاً آخر وافقهم عليه مسيحيو الغرب. ونحن أصبحنا غرباء عنهم جميعاً. وكل يوم نحرم من الجميع. فأطلب عقد مجمع مسكوني يحضره نواب عن بابا رومة وعن رؤساء كهنة الشرق".
وهذا ما يجب أن نعلمه أن هؤلاء ليسوا على ملة واحدة ولا على قلب واحد وإنما يجمعهم فقط عداوة الإسلام والمسلمين فساعتها يتجمعون تحت هدف محاربة الإسلام والقضاء عليه, أما هم من داخلهم فلا مجال للاقتراب ولا للتعيش مع بعضهم البعض, فيكفي أن نعلم أنه قد حضر المجامع كلها ما يقارب أربعة عشر ألفًا من الأساقفة والبطاركة والرهبان لكنهم فرق وجماعات وأفكار تكفر بعضها بعضًا ويلعن بعضها بعضًا, وهؤلاء لن يجمعهم جامع ولن تفيدهم ولن تقرب بينهم مجامع إذ كان جمعهم على الباطل وعلى ترك الديانة الصحيحة التي أمرهم الله بها بتوحيده وتنزيهه عن الشريك والشبيه والنظير والولد.
المجامع المسكونية ودورها في توجيه الفكر النصراني
أدوات القراءة
- أصغر صغير متوسط كبير أكبر
- Default Helvetica Segoe Georgia Times
- قراءة خاصة