ترجح والله أعلم أن أكثر القراءات نزل في المدينة المنورة، بيد أنه لا يبعد أن يكون بعضها بدأ نزوله في مكة المكرمة.
وقد كان القرآن الكريم يتلقى عن النبي صلّى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً، يتلقاه عنه الصحابة رضي الله عنهم، وكان القرآن محفوظا في الصدور، وهكذا القراءات، ثم عني العلماء بتدوين القراءات بعد وضع الشروط لقبولها، واعتبارها قرآنا، وسأجمل في ما يأتي المراحل التي مر بها هذا العلم الجليل على النحو التالي:
المرحلة الأولى: القرآن والقراءات في زمن النبوة، ويمكن إجمال هذه المرحلة بالنقاط التالية:
1 - تعليم جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلم القرآن والقراءات، وكان هدفها حفظ النبي صلّى الله عليه وسلم ما كان يلقاه من القرآن.
2 - تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم الصحابة القرآن الكريم امتثالا لقول الله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الإسراء: 106]، وقد ورد عن عثمان وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر، أي: آيات فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمهم القرآن والعمل معا».
3 - تعليم بعض المسلمين بعضا آي القرآن وسوره، وكان ذلك بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وإقراره، فأول من قدم إلى المدينة لتعليم المسلمين القرآن الكريم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وإنه نزل دار القراء وكان سمي بالمقرئ، وعبد الله بن أم مكتوم، ثم بلال وعمار رضي الله عنهم، ولما فتح النبي صلّى الله عليه وسلم مكة ترك فيهم معاذ ابن جبل رضي الله عنه لتعليم المسلمين القرآن.
4 - ظهور طائفة من الصحابة يتدارسون كتاب الله عز وجل يسمون (بالقراء)، وهو بداية نشوء هذا المصطلح، وكانوا سبعين رجلا شببة كانوا إذا أمسوا أتوا ناحية المدينة فتدارسوا القرآن، وهم الذين قتلوا في غزوة بئر معونة.
5 - تصدي بعض الصحابة لحفظ القرآن عن ظهر قلب في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم، ومنهم: أبو بكر الصديق، وأبي بن كعب (ت 20 هـ)، وعبد الله بن مسعود (ت 32 هـ)، وأبو الدرداء عويمر بن زيد (ت 32 هـ)، وعثمان بن عفان (ت 35 هـ)، وعلي بن أبي طالب (ت 40 هـ)، وأبو موسى الأشعري (ت 44 هـ)، وزيد بن ثابت (ت 45 هـ) رضي الله عنهم، قال الذهبي عنهم: «فهؤلاء الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأخذ عنهم عرضا، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة».
هذا، وكون هؤلاء الذين حفظوا القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلم لا يعني أن غيرهم من الصحابة لم يحفظوا القرآن، ولكن هؤلاء هم الذين اشتهروا في الأخذ عن الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم وهناك من الصحابة من أخذوا القرآن وحفظوه على النبي صلّى الله عليه وسلم.
المرحلة الثانية: القرآن والقراءات في زمن الصحابة والتابعين، ويمكن إجمال هذه المرحلة بالنقاط التالية:
1 - تلمذة جماعة من الصحابة والتابعين على جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فقد قرأ أبو هريرة وابن عباس وعبد الله بن السائب وعبد الله بن عياش وأبو العالية الرياحي قرؤوا على أبي بن كعب، وقرأ المغيرة بن أبي شهاب المخزومي على عثمان بن عفان، وقرأ الأسود بن يزيد النخعي على عبد الله بن مسعود.
2 - بدأ أخذ بعض وجوه القراءة المختلفة، ونقلها بالرواية، وقد ذكر ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه في (القراءات)، وهو من أوائل الكتب المؤلفة في علم القراءات، وهذه النقطة لم تتعد القرن الأول الهجري، وبدأت تشيع ظاهرة اختلاف القراءات في النصف الأول من القرن الأول، كما يؤخذ من وفيات الصحابة رضي الله عنهم.
3 - تعيين الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهم مقرئا خاصا لكل مصر من الأمصار التي بعث إليها بمصحف، وتوافق قراءته قراءة أهل المصر المرسل إليهم في الأكثر الأغلب، وقد كتبت المصاحف على وفق العرضة الأخيرة كما تقدم، والمشهور أن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار خمسة، وفي هذه المرحلة بدأ التمييز بين القراءات الصحيحة المعتبرة، والقراءات الآحادية والشاذة، وبدأت تنتشر الروايات الشاذة، وهذا التمييز أساسه التلقي وموافقة الرسم العثماني.
وقد أرسل عبد الله بن السائب المخزومي (ت في حدود 70 هـ) إلى مكة، وأبو عبد الرحمن السلمي (ت 47 هـ) إلى الكوفة، وكان قبله ابن مسعود حينما أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعامر بن عبد قيس (حوالي 55 هـ) إلى البصرة، والمغيرة ابن أبي شهاب المخزومي (ت نيف وسبعين هـ) إلى الشام، وجعل زيد بن ثابت (ت 45 هـ) مقرئا في المدينة، وكان هذا في حدود سنة ثلاثين من الهجرة.
4 - إقبال جماعة من كل مصر على المصحف العثماني لتلقي القراءات وفق ما تلقاه الصحابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك على النحو التالي (1):
أ- في المدينة: معاذ بن الحارث، المعروف بمعاذ القارئ (ت 63 هـ)، وسعيد ابن المسيب (ت 94 هـ)، وعروة بن الزبير (ت 95 هـ)، وعمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) وعطاء بن يسار (ت 103 هـ)، وسالم بن عبد الله بن عمر (ت 106 هـ)، وغيرهم.
ب- في مكة: عبيد بن عمير (ت 74 هـ)، ومجاهد بن جبر (ت 103 هـ)، وطاوس بن كيسان (ت 106 هـ)، وعطاء بن أبي رباح (ت 115 هـ)، وعبد الله بن أبي مليكة (ت 117 هـ)، وعكرمة مولى ابن عباس (ت 200 هـ)، وغيرهم.
ج- في الكوفة: عمرو بن شراحيل (ت بعد 60 هـ)، وعلقمة بن قيس (ت 62 هـ)، ومسروق بن الأجدع (ت 63 هـ)، وعبيدة بن عمرو السلماني (ت 72 هـ)، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي (ت 74 هـ)، وإبراهيم بن يزيد النخعي (ت 96 هـ)، وغيرهم.
د- في البصرة: عامر بن عبد قيس (ت حوالي 55 هـ)، ويحيى بن يعمر العدواني (ت 90 هـ)، ونصر بن عاصم الليثي (ت قبل المائة هـ)، وأبو رجاء العطاردي (ت 105 هـ)، والحسن البصري (ت 110 هـ)، ومحمد بن سيرين (ت 110 هـ)، وغيرهم، هـ- في الشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي (ت نيف وسبعين هـ)، وخليفة بن سعد صاحب أبي الدرداء، وغيرهم، وشملت هذه النقطة النصف الثاني من القرن الأول الهجري والنصف الأول من القرن الثاني الهجري.
4 - تجرد قوم للقراءة والأخذ واعتنوا بضبط القراءة حتى صاروا أئمة يقتدى بهم في القراءة، وقد أجمع أهل بلدهم على تلقي القراءة منهم بالقبول، ولتصديهم للقراءة نسبت القراءة إليهم، ومنهم:
أ- بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع (ت 130 هـ)، وشيبة بن نصاح (ت 130 هـ)، ونافع بن أبي نعيم (ت 169 هـ).
ب- بمكة: عبد الله بن كثير (ت 120 هـ)، وحميد بن قيس الأعرج (ت 130 هـ)، ومحمد بن محيصن (ت 123 هـ).
ج- بالكوفة: يحيى بن وثاب (ت 103 هـ)، وعاصم بن أبي النجود (ت 129 هـ)، وسليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ)، وحمزة الزيات (ت 156 هـ)، والكسائي (ت 189 هـ).
د- بالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق (ت 129 هـ)، وعيسى بن عمر (ت 149 هـ)، وأبو عمرو بن العلاء (ت 154 هـ)، وعاصم الجحدري (ت 128 هـ)، ويعقوب الحضرمي (ت 205 هـ).
هـ- بالشام: عبد الله بن عامر (118 هـ)، وعطية بن قيس الكلابي (ت 121 هـ) وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ويحيى بن الحارث الذماري (ت 145 هـ)، وشريح بن يزيد الحضرمي (ت 203 هـ).
وكانت هذه الفترة تمهيدا للمرحلة التي بعدها، وهي فترة التدوين لروايات القراءات مع توفرها وبروزها ووضوحها.
المرحلة الثالثة: بدء التأليف في القراءات والتدوين وتنامي هذا الاتجاه حتى نضوج علم القراءات، ونضوج التأليف فيه، واستقراره، وسيأتي تفصيل دقيق في فصل مستقل من هذا الكتاب يبين حركة التأليف والتصنيف في علم القراءات، وتحقيق ذلك، ولكني في هذا المبحث سأعالج حركة التأليف بالقدر الذي يخدم إبراز هذه المرحلة كمرحلة تاريخية من مراحل نشوء علم القراءات دون الخوض في التفصيلات الدقيقة والتحقيقات المهمة، وذلك ضمن النقاط التالية:
1 - بدء التأليف في علم القراءات، وبدء عملية التدوين، وقد اختلف المؤرخون في أول من ألف في علم القراءات، فذهب الأكثر إلى أنه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ)، وذهب ابن الجزري إلى أنه أبو حاتم السجستاني (ت 225 هـ)، وقيل غير ذلك، ولكن الذي يبدو أن يحيى بن يعمر (ت 90 هـ) هو أول من ألف في علم القراءات ثم تتابع التأليف من بعده، وقد زاد عدد المؤلفات بعد ابن يعمر إلى تسبيع ابن مجاهد السبعة واقتصاره عليهم، وجعلهم في مصنف خاص على ما يذكر
الدكتور عبد الهادي الفضلي عن أربع وأربعين مصنفاً.
ويلاحظ أن هذه المصنفات لم تقتصر على عدد معين من القراءات.
2 - تسبيع السبعة والاقتصار على جمع مؤلفاتهم في مؤلف خاص، وذلك في كتاب (السبعة في القراءات) لأبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي (ت 324 هـ)، وبدء ظهور شروط القراءة الصحيحة، وتمييز الصحيح من الشاذ، فإن اختيار ابن مجاهد السبعة يشعر بأن ما سواها شاذ، وسيأتي تفصيل ما فعله ابن مجاهد، وسبب اقتصاره على السبعة، وشروط الاختيار مفصلاً.
3 - بعد تسبيع السبعة، وتشذيذ القراءات الشواذ، جاءت مرحلة الاحتجاج للقراءات في جوانبها اللغوية من صوتية وصرفية ونحوية، وسيأتي تفصيل المصنفات في علم توجيه القراءات والاحتجاج لها في مبحث العلوم المتصلة بعلم القراءات.
4 - توالي التأليف في القراءات السبع، ومن أبرز هذه الكتب «التيسير» لأبي عمرو الداني (ت 444 هـ)، ونظمه للإمام الشاطبي (ت 590 هـ)، وقد زادت شروحها عن (29) شرحا، وتعدّ هذه النقطة هي الفاصلة للتفرقة بين القراءات الصحيحة والقراءات الشاذة، باشتهار كتاب التيسير ونظمه للشاطبي.
5 - ثم جاءت مرحلة تفريد القراءات وتسديسها وتثمينها وتعشيرها دفعا لما علق في أذهان كثيرين من أن الأحرف السبعة الواردة في الحديث الشريف هي القراءات السبع التي جمعها ابن مجاهد، قال أبو الفضل الرازي:
«إن الناس إنما ثمنوا القراءات وعشّروها وزادوا على عدد السبعة الذين اقتصر عليهم ابن مجاهد- لأجل هذه الشبهة- وإني لم أقتف أثرهم تثميناً في التصنيف أو تعشيرا أو تفريدا إلا لإزالة ما ذكرته من الشبهة.
وليعلم أن ليس المراعى في الأحرف السبعة المنزلة عدداً من الرجال دون آخرين ولا الأزمنة ولا الأمكنة، وأنه لو اجتمع عدد لا يحصى من الأمة فاختار كل واحد منهم حروفاً بخلاف صاحبه، وجرد طريقاً في القراءة على حدة في أي مكان كان وفي أي أوان أراد بعد الأئمة الماضين في ذلك- بعد أن كان ذلك المختار بما اختاره من الحروف بشرط الاختيار- لما كان بذلك خارجا عن الأحرف السبعة المنزلة، بل فيها متسع إلى يوم القيامة».
والمقصود بالتفريد إفراد قراءة واحدة بالتأليف، والتسديس: ذكر ست قراءات في مؤلف واحد وهكذا.
والهدف من ذلك أمران:
1 - إزالة ما توهمه كثيرون من أن القراءات السبع هي الأحرف السبعة.
2 - بيان أن هناك قراءات أخرى غير السبع مقبولة وصحيحة.
وقد أورد ابن الجزري طائفة من هذه الكتب في قائمة مصادر كتابه «النشر»، وذكر في غاية النهاية كثيراً منها عند ترجمته لمؤلفيها، وذكر صاحب كشف الظنون أكثرها حسب ترتيب أسمائها على حروف المعجم، كما ذكرت مرتبة على حسب سنوات وفاة مؤلفيها في الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي- قسم القراءات.
المصدر: مقدمات في علم القراءات: محمد أحمد مفلح القضاة، وآخرون
التدرج التاريخي لنشأة علم القراءات
أدوات القراءة
- أصغر صغير متوسط كبير أكبر
- Default Helvetica Segoe Georgia Times
- قراءة خاصة